وقال تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا. قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا.قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا. واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا. إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا}. وقال تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا}. وقال تعالى: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما. وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى. فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى. إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى. وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى. فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى. فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى. ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى. قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى}. وقال تعالى: {قل هو نبأ عظيم. أنتم عنه معرضون. ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون. إن يوحى إلي إلا إنما أنا نذير مبين. إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين. فسجد الملائكة كلهم أجمعون. إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين. قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أاستكبرت أم كنت من العالين. قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين. قال فاخرج منها فإنك رجيم. وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين. قال رب أنظرني إلى يوم يبعثون. قال فإنك من المنظرين. إلى يوم الوقت المعلوم. قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلصين. قال فالحق والحق أقول. لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين. قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين. إن هو إلا ذكر للعالمين. ولتعلمن نبأه بعد حين}.
فهذا ذكر هذه القصة من مواضع متفرقة من القرآن، وقد تكلمنا على ذلك كله في التفسير، ولنذكر هاهنا مضمون ما دلت عليه هذه الآيات الكريمات، وما يتعلق بها من الأحاديث الواردة في ذلك عن رسول الله والله المستعان.
فأخبر تعالى أنه خاطب الملائكة قائلا لهم: {إني جاعل في الأرض خليفة} أعلم بما يريد أن يخلق من آدم وذريته الذين يخلف بعضهم بعضا كمال قال: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} وقال: {ويجعلكم خلفاء الأرض} فأخبرهم بذلك على سبيل التنويه بخلق آدم وذريته، كما يخبر بالأمر العظيم قبل كونه، فقالت الملائكة سائلين على وجه الاستكشاف والاستعلام عن وجه الحكمة، لا على وجه الاعتراض والتنقص لبني آدم والحسد لهم، كما قد يتوهمه بعض جهلة المفسرين، قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء}.
قيل علموا أن ذلك كائن بما رأوا ممن كان قبل آدم من الجن والبن. قاله قتادة.
وقال عبد الله بن عمر: كانت الجن قبل آدم بألفي عام فسفكوا الدماء، فبعث الله إليهم جندا من الملائكة فطردوهم إلى جزائر البحور. وعن ابن عباس نحوه. وعن الحسن: ألهموا ذلك. وقيل: لما اطلعوا عليه من اللوح المحفوظ، فقيل أطلعهم عليه هاروت وماروت عن ملك فوقهما يقال له السجل. رواه ابن أبي حاتم عن أبي جعفر الباقر. وقيل: لأنهم علموا أن الأرض لا يخلق منها إلا من يكون بهذه المثابة غالبا.
{ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} أي نعبدك دائما لا يعصيك منا أحد، فإن كان المراد بخلق هؤلاء أن يعبدوك فها نحن لا نفتر ليلا ولا نهارا.
{قال إني أعلم ما لا تعلمون} أي أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هؤلاء ما لا تعلمون، أي سيوجد منهم الأنبياء والمرسلون والصديقون والشهداء.
ثم بين لهم شرف آدم عليهم في العلم فقال: {وعلم آدم الأسماء كلها}. قال ابن عباس: هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان، ودابة، وأرض وسهل، وبحر، وجبل، وجمل، وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. وفي رواية: علمه اسم الصحفة، والقدر، حتى الفسوة والفسية. وقال مجاهد: علمه اسم كل دابة، وكل طير وكل شيء. وكذا قال سعيد بن جبير وقتادة وغير واحد.
وقال الربيع: علمه أسماء الملائكة. وقال عبد الرحمن بن زيد: علمه أسماء ذريته. والصحيح: أنه علمه أسماء الذوات وأفعالها مكبرها ومصغرها، كما أشار إليه ابن عباس رضي الله عنهما.
وذكر البخاري هنا ما رواه هو ومسلم من طريق سعيد وهشام عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن رسول الله قال: "يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا، فيأتون آدم فيقولون أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء" وذكر تمام الحديث.
{ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}. قال الحسن البصري: لما أراد الله خلق آدم، قالت الملائكة: لا يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه. فابتلوا بهذا. وذلك قوله {إن كنتم صادقين}. وقيل غير ذلك كما بسطناه في التفسير.
{قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} أي سبحانك أن يحيط أحد بشيء من علمك من غير تعليمك، كما قال: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء}.
{قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون}. أي أعلم السر كما أعلم العلانية. وقيل أن المراد بقوله: {وأعلم ما تبدون } ما قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها، وبقوله {وما كنتم
تكتمون} المراد بهذا الكلام إبليس حين أسر الكثير والخيرية على آدم عليه السلام. قاله سعيد بن جبير ومجاهد والسدي والضحاك والثوري واختاره ابن جرير. وقال أبو العالية والربيع والحسن وقتاده: {وما كنتم تكتمون} قولهم: لن يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه وأكرم عليه منه.
قوله: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر} هذا إكرام عظيم من الله لآدم حين خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، كما قال: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} فهذه أربع تشريفات: خلقه له بيده الكريمة، ونفخه من روحه، وأمره الملائكة بالسجود له، وتعليمه أسماء الأشياء.
ولهذا قال له موسى الكليم حين اجتمع هو وإياه في الملأ الأعلى وتناظرا كما سيأتي: أنت آدم أبو البشر الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء. وهكذا يقول أهل المحشر يوم القيامة كما تقدم، وكما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقال في الآية الأخرى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين. قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين}. قال الحسن البصري: قاس إبليس وهو أول من قاس، وقال محمد بن سيرين: أول من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقايس رواهما ابن جرير.
ومعنى هذا أنه نظر نفسه بطريق المقايسة بينه وبين آدم، فرأى نفسه أشرف من آدم فامتنع من السجود له، مع وجود الأمر له ولسائر الملائكة بالسجود. والقياس إذا كان مقابلا بالنص كان فاسد الاعتبار. ثم هو فاسد في نفسه، فإن الطين أنفع وخير من النار، لأن الطين فيه الرزانة والحلم والأناة والنمو، والنار فيها الطيش والخفة والسرعة والإحراق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق